/ الفَائِدَةُ : ( 2 ) /
05/06/2025
بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى الله على محمد واله الطاهرين ، واللَّعنة الدَّائمة على أَعدائهم اجمعين. / إِعراض الفلاسفة ـ وَمَنْ جرى على شاكلتهم ـ عن بيانات الوحي / / عدم حياديَّة المدارس المعرفيَّة مع كلمات الوحي / إِنَّ إِعراض الفلاسفة ـ وَمَنْ جرى على شاكلتهم مِن المُتكلِّمين والمُفسِّرين والمُحدِّثين ـ عن بيانات وبراهين الوحي لا مبرِّر له إلَّا شيء واحد ، وهو: أَنَّ النقل عن الوحي تعبُّدٌ ظنيٌّ ، ومن مقولة الانقياد المبهم . والْحَقُّ : أَنَّ أَوَّل مراتب حُجِّيَّة النقل عن الوحي هي الْعِلْمُ ، فالدَّور الأوَّل للعِلْمِ النقلي عن الوحي هو التَّسليم عن عِلْمٍ ودرايةٍ وتفصيلٍ . وهذا ما تُشير إِلَيْه بيانات الوحي ، منها : بيان سَيِّد الْأَنْبِيَاء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ : « فضل الْعَالِم على العابد كفضلي على أدناكم ، إِنَّ الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتَّى النملة في جحرها وحتَّى الحوت في الماء يُصَلُّون على مُعَلِّمِ النَّاس »(1). ومعناه : أَنَّ قوام علوم الدِّين بالفهم ؛ فكلٌّ من العابد والْعَالِمِ يُسلِّم بالوحي ، لكن العابد يُسلِّم عن ظَنّ وإِبهام ، أَمَّا الْعَالِم فإِنَّه يُسلِّم عن عِلْمٍ ودرايةٍ وتفصيلٍ . وإِلى هذا تُشير بيانات الوحي الْأُخْرَى ، منها : 1ـ بيان خطبة سَيِّد الْأَنْبِيَاء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ : « نضّر اللّٰـه عبداً سمع مقالتي فوعاها ؛ وبَلَّغها مَنْ لم يسمعها ، فكم من حامل فقه غير فقيه ، وكم من حامل فقه إِلى من هو أَفقه منه ... »(2). 2ـ بيان أَمِير الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ : « همَّة السفهاء الرواية ، وهمَّة العلماء الدراية »(3). ودلالته ـ كدلالة سابقه ـ واضحة ؛ فإِنَّ المراد من عنوان : (السُّفهاء) المأخوذ في هذا البيان الإِلٰهيّ الشَّريف : مَنْ يتعامل مع بيانات الوحي بسطحيَّة وعدم رشد ، وعدم غور ، فيقتصر على صدور الرُّواية وأَلفاظها . 3 ـ بيانه صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَيْضاً : «عليكم بالدرايات لا بالروايات»(4). 4ـ بيانه صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَيْضاً : «اعقلوا الخبر إِذا سمعتموه عقل رعاية لا عقل رواية ؛ فإنَّ رواة الْعِلْم كثير ورعاته قليل»(5). 5ـ بيانه صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَيْضاً : « ... وترككَ حديثاً لم تروه خير من روايتكَ حديثاً لم تحصه ، إِنَّ على كُلِّ حَقٍّ حقيقة ، وعلى كُلِّ صوابٍ نوراً ، فما وافق كتاب اللّٰـه فخذوا به وما خالف كتاب اللّٰـه فدعوه»(6). 6ـ بيان الإِمام الباقر مُخاطباً ولده الإِمام الصَّادق صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهما : « يا بُنَيَّ ، اعرف منازل الشيعة على قدر روايتهم ومعرفتهم ؛ فإنَّ المعرفة هي الدراية للرُّواية ، وبالدرايات للرُّوايات يعلو المؤمن إِلى أَقصى درجات الإِيمان ، إِنِّي نظرتُ في كتابٍ لِعَلِيٍّ عليه السلام فوجدتُ في الكتاب : أَنَّ قيمة كُلّ امرئٍ وقدره معرفته ، إِنَّ اللّٰـه تبارك وتعالىٰ يُحاسب النَّاس على قدر ما آتاهم من العقول في دار الدُّنيا»(7). 7ـ بيان الإِمام الصَّادق صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ : « رواة الكتاب كثير، ورعاته قليل ، فكم من مستنصحٍ للحديث مستغش للكتاب ، والعلماءُ تحزنهم الدراية ، والجهَّال تحزنهم الرواية »(8). 8ـ بيانه صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَيْضاً : « حديث تدريه خير من أَلفٍ ترويه ، ولا يكون الرَّجُل منكم فقيهاً حتَّىٰ يعرف معاريض كلامنا ... »(9). ودلالته ـ كدلالة سوابقه ـ واضحة على ضرورة الدراية بمتن ومضمون الرُّواية ، وعدم صحَّة واعتبار وحُجِّيَّة منهج الْاِقْتِصَار على مُجَرَّد الرُّواية. وبالجملة : ألفاظ بيانات الوحي وإن كانت مُقدَّسة ، لكن قداسة التَّدبُّر في بحور معانيها غير المتناهية أعظم واخطر . وهذا ما تُشير إِلَيْه بيانات الوحي الْأُخْرَى ، منها : الْأَوَّلَ : بيان قوله (جَلَّ وَتَقَدَّسَ) : [أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا](10). الثَّانِيَ : بيان قوله (جَلَّ قوله) : [أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا](11). ودلالته ـ كدلالة سابقه ـ قد اِتَّضَحَتْ . الثَّالِثَ : بيان قوله (جَلَّ اسمُهُ) : [هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ](12). ودلالته قد اِتَّضَحَتْ أَيْضاً . بعد الْاِلْتِفَات : أَنَّ أَحد مقامات سَيِّد الْأَنْبِيَاء وسائر أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مقـام المُعَلِّم الإِلَهِيّ ؛ فكما لهم صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مقام الولاية الْإِلَهِيَّة لهم أَيْضاً مقـام المُعلِّم الْإِلَهِيّ . إِذَنْ : قام منهج الفلاسفة على عدم الحياديَّة بلحاظ كلمات الوحي ؛ فلماذا يوجب كلام البشر للباحث في الفلسفة ـ ككلام أرسطو وسقراط وما شاكلهما ـ الاحتمال ولا يوجب له كلام الوحي ذلك ؟! ولماذا ينفتح على مدارس البشر ـ كالمدرسة الغربيَّة ـ ولا ينفتح على مدارس الوحي ؟! فلماذا تكون الحريَّة في جانب المعرفة البشريَّة ولا تكون في المعرفة الوحيانيَّة ؟! فهل الحقوق والقوانين منحازة وموجودة في الجانب الأَوَّل دون الثَّاني ؟! وعلى هذا قس حال الباحث في علم الأَخلاق والعرفان والسلوك ، فلماذا يطرق كتب العرفاء والصوفيَّة وما شاكلها ولا يطرق كتب أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ كنهج البلاغة ، والصَّحيفة السَّجاديَّة ، ومناجاة الإمام زين العابدين صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه الخمسة عشر وَهَلُمَّ جَرّاً من سائر الادعية والزيارات وغيرها الكثير جداً ؟! فهل هي عصبيَّة ؟! والمفروض أَنَّ شعار الفلسفة وما شاكلها عدم التعصب ، فكيف صغى ونصت إلى الحداثويين والأَلسنيين ولم يكن كذلك مع تراث الوحي الْإلَهِيّ ؟! فأين الموضوعيَّة والحياديَّة ؟! أَوَ ليس هذا تحجير للافهام والعقول ؟ وهل المُستقبل يُبنى على هدم الماضي والقديم ؟! أَوَ ليس إِنجازات المُستقبل ـ كإِنجازات العلوم الحديثة ـ رهينة بإِنجازات الماضي ؟! فإِنَّ مَن ْ لا ماضٍ له لا هويَّة له ولا نسب . ومن ثَمَّ لا يُعذر الفيلسوف وغيره قديماً كان أَم حديثاً ، دهريّاً كان أَم غيره في أَن لا ينفتح على كلمات وبيانات الوحي وإِن كانت ضعيفة السند ، فإِنَّه يَنْبَغِي على أَقل التقادير أَن تحصل لديه حياديَّة علميَّة ، قال تعالى : [وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ](13)، وهذه الحياديَّة درجة من التديُّن ومقدار من الإِنصاف والاعتدال ، وهي نوع إِيمان وتسليم ، وعدم استكبار ، فإِنَّ الاحتمال له درجة من درجات الحجِّيَّة ، ورعايته رعاية درجة من درجات الدِّيانة. وبالجملة : أَنَّ مسير البحث عند الفلاسفة ـ ومَنْ جرى على شاكلتهم ـ غير منفتح على آفاق الوحي ، بل محبوس على نتاج البشر، وهو محدود بمحدودية وتناهي البشر وقواه ، بل واغلبه ظني الدلالة والصدور ؛ بدليل اختلاف وتباين أَقوالهم وآراؤهم في جُلِّ المسائل. والأَوْلَى بالشعار الَّذي يرفعه الفلاسفة ـ وهو : معرفة الحقيقة على قدر وسع الطَّاقة البشريَّة ـ أنْ لا يحبسوا مسير البحث ويجعلوه ضيِّقاً ، بل توسعته لأُفق بيانات الوحي غير المتناهية أَزَلاً وأَبَداً ؛ لِاِسْتِخْرَاج ما فيها من كنوز براهين وحقائق ، وهي لغة علميَّة وليست ظنيَّة. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ الأَطْهَارِ . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) كنز العمال ، 10 / 145 / ح28740 . (2) بحار الأَنوار ، 2 : 148/ح22. (3) المصدر نفسه : 160/ح13. (4) المصدر نفسه /ح12. (5) المصدر نفسه : 161/ح21. (6)المصدر نفسه ، 2 : 165/ح25. (7) المصدر نفسه : 184/ح4. (8) المصدر نفسه : 161/ح14. (9) المصدر نفسه : 184/ح5. (10) محمد : 24. (11) النساء : 82 . (12) الجمعة : 2. (13) سبأ : 24